فصل: تفسير الآيات (36- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظرف معمول للمقدّر. قرأ الجمهور {توفتهم} وقرأ الأعمش {توفاهم}. وجملة {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم} في محل نصب على الحال من فاعل {توفتهم}. أو من مفعوله. أي: ضاربين وجوههم وضاربين أدبارهم. وفي الكلام تخويف وتشديد. والمعنى: أنه إذا تأخر عنهم العذاب. فسيكون حالهم هذا. وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه. وقيل: ذلك.
عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله. وقيل: ذلك يوم القيامة. والأول أولى.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى التوفي المذكور على الصفة المذكورة. وهو مبتدأ وخبر: {بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله}. أي: بسبب اتباعهم ما يسخط الله من الكفر والمعاصي. وقيل: كتمانهم ما في التوراة من نعت نبينا صلى الله عليه وسلم. والأول أولى لما في الصيغة من العموم {وَكَرِهواْ رِضْوَانَهُ} أي: كرهوا ما يرضاه الله من الإيمان والتوحيد والطاعة {فَأَحْبَطَ} الله {أعمالهم} بهذا السبب. والمراد بأعمالهم: الأعمال التي صورتها صورة الطاعة. وإلاّ فلا عمل لكافر. أو ما كانوا قد عملوا من الخير قبل الردّة.
{أَمْ حَسِبَ الذين في قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} يعني: المنافقين المذكورين سابقًا. و{أم} هي المنقطعة. أي: بل أحسب المنافقون {أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم} الآخراج بمعنى: الإظهار. والأضغان جمع ضغن. وهو: ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه. فقيل: هو الغشّ. وقيل: الحسد وقيل: الحقد.
قال الجوهري: الضغن والضغينة: الحقد. وقال قطرب: هو في الآية العداوة. و{أن} هي المخففة من الثقيلة. واسمها ضمير شأن مقدّر.
{ولو نشاء لأريناكهم} أي: لأعلمناكهم. وعرّفناكهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية. تقول العرب: سأريك ما أصنع. أي: سأعلمك {فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم} أي: بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها.
قال الزجاج: المعنى: لونشاء لجعلنا على المنافقين علامة. وهي السيما. فلعرفتهم بتلك العلامة. والفاء لترتيب المعرفة على الإرادة. وما بعدها معطوف على جواب {لو}. وكررت في المعطوف للتأكيد. وأما اللام في قوله: {ولتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ القول} فهي جواب قسم محذوف.
قال المفسرون: لحن القول: فحواه ومقصده ومغزاه. وما يعرّضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين. وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلاّ عرفه.
قال أبوزيد: لحنت له اللحن: إذا قلت له قولا يفقهه عنك. ويخفى على غيره. ومنه قول الشاعر:
منطق صائب وتلحن أحيانا ** وخير الكلام ما كان لحنا

أي: أحسنه ما كان تعريضًا يفهمه المخاطب. ولا يفهمه غيره لفطنته وذكائه. وأصل اللحن: إمالة الكلام إلى نحومن الأنحاء لغرض من الأغراض {والله يَعْلَمُ أعمالكم} لا تخفى عليه منها خافية فيجازيكم بها. وفيه وعيد شديد {ولنبلونكم حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} أي: لنعاملنكم معاملة المختبر. وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الأمر بالجهاد. وصبر على دينه. ومشاقّ ما كلف به.
قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون. وقرأ أبو بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلها. ومعنى {وَنَبْلُوأخباركم}: نظهرها ونكشفها امتحانًا لكم. ليظهر للناس من أطاع ما أمره الله به. ومن عصى. ومن لم يمتثل.
وقرأ الجمهور {ونبلو} بنصب الواو عطفًا على قوله: {حتى نَعْلَمَ}.
وروى ورش عن يعقوب إسكانها على القطع عما قبله.
وقد أخرج البخاري. ومسلم. وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم بحقوالرحمن. فقال: مه. قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال: نعم أترضي أن أصل من وصلك. وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قال: فذلك لك»؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} الآية إلى قوله: {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}» والأحاديث في صلة الرحم كثيرة جدًّا.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم} قال: هم أهل النفاق.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {أَمْ حَسِبَ الذين في قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم} قال: أعمالهم: خبثهم. والحسد الذي في قلوبهم. ثم دلّ الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بعد على المنافقين. فكان يدعوباسم الرجل من أهل النفاق.
وأخرج ابن مردويه. وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري في قوله: {ولتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ القول} قال: ببغضهم عليّ بن أبي طالب. اهـ.

.تفسير الآيات (36- 38):

قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولهو وإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ولا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفقراء وَإِنْ تَتَولوا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أتم العلة الأولى أقبل على الثانية الصادة عن الطاعة القائدة إلى المعصية الملائمة للشهوة المبطلة للأعمال الموجبة للتهاون المؤدي إلى عدم المغفرة. فقال مرغبًا في طاعته الموجبة للفوز الدائم ببيان قصر أيام المحنة وتجرع مرارات المشقة: {إنما الحياة} وأشار إلى دناءتها تنفيرًا عنها بقوله: {الدنيا} ولما كان مطلق العلوموجبًا لأعظم اللذاذة فكيف إذا كان موجبه الدين الضامن لدوام اللذة موصولا دنيويها بأخرويها. وكان اللعب ما ينشأ من زيادة البسط وينقضي بسرعة مع دلالته على الخفة كالرقص. قدمه إشارة إلى أن العاقل من يسعى في زيادة بسط يحمل على الرزانة ويدوم. وأتبعه اللهو لأنه ما يستجلب به السرور كالغنا إشارة إلى أنه إن كان المراد بالدنيا زيادة بسطها فهو ينقضي بسرعة. مع ما فيه من الرعونة. وإن كان المراد أصل البسط والسرور فعندكم منه بالعلوالحاصل لكم بالجهاد ما هو في غاية العظمة والجد والثبات فلا سفه أعظم من العدو ل عنه إلى ما إن سر حمل على الطيش وانقضى بسرعة. فقال: {لعب} أي أعمال ضائعة سافلة تزيد في السرور ويسرع اضمحلاله. فيبطل من غير ثمرة {ولهو} أي مشغلة يطلب بها إثارة اللذة كالغنا وحيرة وغفلة. فإن تتبعوها تكفروا وتبطروا وتجترئوا على الله. وإن تكفروا به وتجترئوا عليه تبطل أجوركم فلا يكون لكم أجر ولا مال لأنه يبطل أعمالكم وأموالكم بكونها تصير صورًا لا معاني لها.
ولما صور سبحانه الدنيا بألذ صورها عند الجاهل وأمضها عند العاقل. وحاصله أنها زيادة سرور لمن كان مسرورًا. واستجلاب له لمن كان مضرورًا. لكنه سريع الأنصرام بخلاف ثمرة الاجتماع على الدين من سرور العلوبالإسلام. فإنه باق على الدوام. علم أن التقدير بناء على ما تبع وصف الدنيا. والآخرة جد وعمل وحضور فإن تقبلوا عليها تؤمنوا وتتقوا فلا تخدعنكم الدنيا على دناءتها عن نيل الآخرة بالجهاد الأكبر والأصغر على شرفها وشرفه. قال بانيًا على ما أرشد السياق إلى تقديره: {وإن تؤمنوا وتتقوا} أي تخافوا فتجعلوا بينكم وبين غضبه سبحانه وقاية من جهاد أعدائه ومقاساة لفح إيقاد الحروب وحر الأمر بالمعروف وإنفاق الأموال في ذلك. فتكونوا جادين فتتركوا اللهو واللعب القائدين إلى الكفر {يؤتكم} أي الله الذي فعلتم ذلك من أجله في الدار الآخرة {أجوركم} أي ثواب كل أعمالكم لبنائها على الأساس ولأنه غني لا ينقصه إلا عطاء. والآية من الاحتباك: ذكر الحياة الدنيا واللهو واللعب أولا دال على ذكر الآخرة والجد ثانيًا. وذكر الإيمان والتقوى ثانيًا دال على حذف ضدهما الكفران والجرأة أولا. وسره أن تصوير الشيء بحال الصبي والسفيه أشد في الزجر عنه عند ذوي الهمم العالية. وذكر الأجر المرتب على الخوف الذي هو فعل الحزمة أعون على تركه.
ولما كان الملعوب به الملهو منه يسأل اللاعب اللاهي من ماله. ولا يقنع عند سؤاله. فيكون سببًا لضياع أعماله وأمواله. بين أن المعبود بخلاف ذلك في الأمرين. وأنه يعطي ولا يأخذ لنفسه شيئًا وإنما أخذه أمره بمواصلة بعضكم لبعض فقال تعالى: {ولا يسئلكم} أي الله في الدنيا {أموالكم} أي لنفسه ولا كلها. وهذا مفهم لأنهم إن لم يتقوا بما ذكر سلط عليه من يأخذ أموالهم بما يخرج أضغانهم. قال ابن برجان: ومتى سئلوا أموالهم بخلوا. فإن أكرهوا على ذلك أشحنوا ضغائن وحقائد. ولم يكن من الإمام لهم نصيحة ولا منهم للإمام ولا لبعضهم لبعض. وكان الخلاف. وفي ذلك الحالقة. وهو إنذار منه سبحانه بما يكون بعد. وما أنذر شيئًا إلا كان منه ما شاء الله.
ولما كان الإنسان. لما جبل عليه من النقصان. قد يهلك جميع أمواله لهوا ولعبًا بالمقامرة ونحوها. ولا ينهاه ذلك بل لا يزيده إلا إقبالًا رجاء أن يظفر. ولوسئل جميع ماله في الطاعة لبخل. قال تعالى ذاكرًا لهم ذلك تنبيهًا عليه وإيماء إلى حلمه تعالى عنهم وتحببه إليه معللًا ما قبله: {أن يسئلكموها} أي الأموال كلها. ولما كانت الأموال قد تطلق على معظمها. حقق المعنى بقوله: {فيحفكم} أي يبالغ في سؤالكم ويبلغ فيه الغاية حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك {تبخلوا} فلا تعطوا شيئًا {ويخرج} أي الله أو المصدر المفهو م من {تبخلوا} بذلك السؤال {أضغانكم} أي ميلكم عنه حتى يكون آخر ذلك عداوة وحقدًا. وقد دل إضافة الأضغان إلى ضميرهم أن كل إنسان ينطوي بما له من النقصان. على ما جبل عليه من الإضغان. إلا من عصم الرحيم الرحمن. قال الرازي: وهذا دليل على أن العبد إذا منع في مواسم الخيرات سوى الزكاة لم يخرج من البخل. فحد البخل منع ما يرتضيه الشرع والمروءة فلا بد من مراعاة المروءة ورفع قبح الأحدوثة. وذلك يختلف باختلاف الأشخاص. وقدم المادة مهما ظهر له أن فائدة البذل أعظم من فائدة الإمساك ثم يشق عليه البذل فهو بخيل محب للمال. والمال لا ينبغي أن يحب لذاته بل لفائدته. وحفظ المروءة أعظم وأفضل وأقوى من التنعم بالأكل الكثير مثلًا.
ولما أخبر ببخلهم لوسئلوا جميع أموالهم أوأكثرها. دل عليه بمن يبخل منهم عما سأله منهم وهو جزء يسير جدًّا من أموالهم. فقال منبهًا لهم على حسن تدبيره لهم وعفوه عنهم عند من جعل ها للتنبيه. ومن جعل الهاء بدلًا من همزة استفهام جعلها للتوبيخ والتقريع. لأن من حق من دعاه مو لاه أن يبادر للإجابة مسرورًا فضلًا أن يبخل. وفي هاء التنبيه ولاسيما عند من يرى تكررها تأكيد لأجل استبعادهم أن أحدًا يبخل عما يأمر الله به سبحانه: {هأنتم} وحقر أمرهم أوأحضره في الذهن وصوره بقوله: {هؤلاء تدعون} أي إلى ربكم الذي لا يريد بدعائكم إلا نفعكم وأما هو فلا يلحقه نفع ولا ضر {لتنفقوا} شيئًا يسيرًا من الزكاة وهي ربع العشر ونحوه. ومن نفقة الغزو وقد يحصل من الغنيمة أضعافها وقد يحصل من المتجر أوأكثر. وقد عم ذلك وغيره قوله: {في سبيل الله} أي الملك الأعظم الذي يرجى خيره ويخشى ضيره. بخلاف من يكون وما يكون به اللهواللعب.
ولما أخبر بدعائهم. فصلهم فقال تعالى: {فمنكم} أي أيها المدعون {من يبخل} وهو منكم لا شك فيه. وحذف القسم الآخر وهو (ومنكم من يجود) لأن المراد الاستدلال على ما قبله من البخل.
ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه ليقع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله: {ومن} أي والحال أنه من {يبخل} بذلك {فإنما يبخل} أي بماله بخلًا صادرًا {عن نفسه} التي هي منبع الدنايا. فلا تنفس ولا تنافس إلا في الشيء الخسيس. فإن نفع ذلك الذي طلب منه فبخل به إنما هو له. وأكده لأنه لا يكاد أحد يصدق أن عاقلًا يتجاوز بماله عن نفع نفسه. ولذا حذف (ومن يجد فإنما يجد على نفسه) لفهمه عن السياق واستغناء الدليل عنه. هذا والأحسن أن يكون {يبخل} متضمنًا (يمسك) ثم حذف (يمسك) ودل عليه بحال محذوفة دل عليها التعدية بعن.
ولما كان سؤال المال قد يوهم شيئًا. قال مزيلًا له مقررًا لأن بخل الإنسان إنما هو عن نفسه عطفًا على ما تقديره: لأن ضرر بخله إنما يعود عليه وهو سبحانه لم يسألكم ذلك لحاجته إليه ولا إلى شيء منكم. بل لحاجتكم إلى الثواب. وهو سبحانه قد بنى أمور هذه الدار كما اقتضته الحكمة على الأسباب: {والله} أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {الغني} أي وحده {وأنتم} أيها المكلفون خاصة {الفقراء} لأن العطاء ينفعكم والمنع يضركم.
فمن افتقر منكم إلى فقير مثله وقع في الذل والهوان. وقد جرت عادتكم أن يداخلكم من السرور ما لا يجد إذا طلب من أحد منكم أحد من الأجواد الأغنياء شيئًا طمعًا في جزائه. فكونوا كذلك وأعظم إذا طلب منكم الغنى المطلق.
ولما كان التقدير: فإن تقبلوا بنو لكم تفلحوا عطف عليه قوله مرهبًا لأن الترهيب أردع: {وإن تتولوا} أي توقعوا التو لي عنه تكلفوا أنفسكم ضد ما تدعوإليه الفطرة الأولى من السماح بذلك الجزاء اليسير جدًّا الموجب للثواب الخطير والفوز الدائم. ومن الجهاد في سبيله. والقيام بطاعته. لكونه المحسن الذي لا محسن في الحقيقة غيره {يستبدل} أي يوجد {قومًا} فيهم قوة وكفاية لما يطلب منهم محأولته.
ولما كان ذلك مفهمًا أنهم غيرهم. لكنه لا يمنع أن يكونوا- مع كونهم غير أعيانهم- من قومهم أوأن يشأ دونهم في الصفات وإن كانوا من غير قومهم. نبه على أنهم يكونون من غير قومهم وعلى غير صفاتهم. بل هم أعلى منهم درجة وأكرم خليقة وأحسن فعلًا فقال تعالى: {غيركم} أي بدلًا منكم وهو على غير صفة التو لي.
ولما كان الناس متقاربين في الجبلات. وكان المال محبوبًا. كان من المستبعد جدًّا أن يكون هذا البذل على غير ما هم عليه. قال تعالى مشيرًا إلى ذلك بحرف التراخي تأكيدًا لما أفهمه ما قلته من التعبير بـ: (غير) وتثبيتًا له: {ثم} أي بعد استبعاد من يستبعد وعلوالهمة في مجاوزة جميع عقبات النفس والشيطان: {لا يكونوا أمثالكم} في التو لي عنه بترك شيء مما أمر به أوفعل شيء مما نهى عنه. ومن قدر على الإيجاد قدر على الإعدام.
بل هو أهون في مجاري العادات. فقد ثبت أنه سبحانه لوشاء لأنتصر من الكفار. إما بإهلاكهم أوإما بناس غيركم بضرب رقابهم وأسرهم. وغير ذلك من أمرهم. وثبت بمواصلة ذم الكفار مع قدرته عليهم أنه أبطل أعمالهم. فرجع بذلك أول السورة إلى آخِرها. وعانق موصله ما ترى من مفصلها. وعلم أن معنى هذا الآخر وذلك الأول أنه سبحانه لابد من إذلاله للكافرين وإعزازه للمؤمنين لأنهم إن أقبلوا على ما يرضيه فجاهدوا نصرهم نصرًا عزيزًا بما ضمنه قوله تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم وثبت أقدامكم} وإن تتولوا أتى بقوم غيركم يقبلون عليه فيصدقهم وعده. فصار خذلأنهم أمرًا متحتمًا. وهو معنى أول سورة محمد- والله الموفق لما يريد من الصواب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولهو}.
زيادة في التسلية يعني كيف تمنعك الدنيا من طلب الآخرة بالجهاد. وهي لا تفوتك لكونك منصورًا غالبًا. وإن فاتتك فعملك غير موتر. فكيف وما يفوتك. فإن فات فائت ولم يعوض لا ينبغي لك أن تلتفت إليها لكونها لعبًا ولهوا. وقد ذكرنا في اللعب واللهومرارًا أن اللعب ما تشتغل به ولا يكون فيه ضرورة في الحال ولا منفعة في المال. ثم إن استعمله الإنسان ولم يشتغله عن غيره. ولم يثنه عن أشغاله المهمة فهو لعب وإن شغله ودهشه عن مهماته فهو لهو. ولهذا يقال ملاهي لالات الملاهي لأنها مشغلة عن الغير. ويقال لما دونه لعب كاللعب بالشطرنج والحمام. وقد ذكرنا ذلك غير مرة. وقوله: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} إعادة للوعد والإضافة للتعريف. أي الأجر الذي وعدكم بقوله: {أَجْرٌ كَرِيمٌ} [ياس: 11] {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11] {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172] وقوله: {ولاَ يَسْئَلْكُمْ أموالكم} يحتمل وجوهًا أحدها: أن الجهاد لابد له من إنفاق. فلوقال قائل أنا لا أنفق مالي. فيقال له الله لا يسئلكم مالكم في الجهات المعينة من الزكاة والغنيمة وأموال المصالح فيها تحتاجون إليه من المال لا تراعون بإخراجه وثانيها: الأموال لله وهي في أيديكم عارية وقد طلب منكم أوأجاز لكم في صرفها في جهة الجهاد فلا معنى لبخلكم بماله. وإلى هذا إشارة بقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ في سَبِيلِ الله وللَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} [الحديد: 10] أي الكل لله وثالثها: لا يسألكم أموالكم كلها. وإنما يسألكم شيئًا يسيرًا منها وهو ربع العشر. وهو قليل جدًّا لأن العشر هو الجزء الأقل إذ ليس دونه جزء وليس اسمًا مفردًا. وأما الجزء من أحد عشر ومن إثنى عشر و(إلى) مائة جزء لما لم يكن ملتفتًا إليه لم يوضع له اسم مفرد.